عاجل

الرئيسية » مقالات و آراء »
تاريخ النشر: 20 أيلول 2022

لا لـ "تعنيف" التعليم.. والغاية لا تبرر الوسيلة

عبير البرغوثي

قبل أيام كانت ساحات بيوتنا في كافة تجمعاتنا الفلسطينية ترقص طرباً على وقع نتائج التوجيهي، مظاهر فرح وأمل بالقادم من الايام الدراسية (حتى وإن شابها بعض السلبيات)، وقبل أن يتلاشى آخر أداء للاحتفالات، حتى طفا على السطح أحد مظاهر "الجاهلية" في التعليم، بعودة أسلوب التعنيف بالضرب المبرح من قبل بعض المدرسين لطلابهم،  وغيره من أساليب قد أوشكنا على وأدها منذ سنوات.

فما أن خطت سفينة التعليم  والتربية  المدرسية أولى خطواتها في بحر العام الدراسي الجديد، إلا وطفا على السطح الوجه القبيح لأسلوب تعليمي ربما ما زال البعض من تلك الأيام البائدة  شديد التعلق به، انه استخدام الضرب والتعنيف الجسدي وغير الجسدي ضد أحد مكونات العملية التعليمية، وخاصة حينما تكون من قبل المؤتمن على مستقبل الاجيال، فالمعلم هو وسيلة التعليم وركيزتها الأساسية واذا صلح المعلِّم صلحت جذور وأسس العملية التعليمية، وصلح المجتمع حاضراً ومستقبلاً، وطلاب اليوم هم مجتمع المستقبل بكل مكوناته، وما يتعرضون له من تشويه في البناء سيكون له انعكاسات عميقة على المجتمع برمته منذ اللحظة الاولى وحتى المستقبل البعيد.

قبل أيام علمنا وفي كافة أماكن تواجدنا بقيام الجهات المعنية بتوقيف معلم على خلفية ضربه  المبرح لأحد طلابه، ضرب لا مبرر له الا تغلغل وتحكم ثقافة العنف داخل هذا النوع من المعلمين، ثقافة لم تتمكن مراحل التعليم وسنوات الخدمة من محوها، وخطورتها ان تتحول الى ممارسة يرى المعلم فيها الوسيلة والطريقة الوحيدة للتربية والتعليم، وتتعمق خطورتها اذا ما تم تناقلها بين المعنيين كقصة نجاح وضبط وتحكم يؤتي ثماره وأهدافه التي وضعها وأقنع صاحبها نفسه بأنها تحقق وتعطي أفضل النتائج، وهكذا تنشأ ديانات الفساد وتنمو مخاطر الاطاحة بصرح التربية والتعليم وتهدم مستقبل الاجيال التي تبذل الأسر والجهات المعنية بكافة مكوناتها كل غال ونفيس لبناء جيل فلسطيني قادر على مقارعة تحديات المستقبل فيما نعيشه من خصوصية وعقبات قد لا تكون هي ذاتها عند سواد العالم من الدول وأشباه الدول، فالتعليم والرأسمال البشري هو ثروتنا وذهبنا الذي لا نقبل أن تطاله آلة الهدم مهما كانت نواياها.

نعلم أن طلابنا لديهم مشاكل وربما يمثلون صورة لمجتمعنا بشكل عام، فنحن لسنا مجتمعًا افلاطونيًّا مثاليًّا، فهذه طبيعة كافة المجتمعات وكذلك حال العملية التعليمية، فهي عملية تطور مستمر، وتعزيز للأساليب التي من شأنها الارتقاء بجودة العملية التعليمية، وتتخلص بشكل مدروس ودون رجعة من الأساليب والأدوات التي تقود لتقويض وتدمير عملية البناء التعليمي، ولذلك خصصت المؤسسات المعنية بالتعليم مناهج ومبادرات ومشاريع كبيرة وطنياً واقليمياً ودولياً بهدف القضاء على العنف في المدارس مهما كانت أطرافه وأسبابه، لأن العنف يتوارث ويتسرب من ساحة الى أخرى ويتشعب لنواح طالما تمكن من الدخول من نقاط الضعف، العنف كما تسرّب النفط في مياه المحيطات، قد يبدو للوهلة الاولى بعيداً، لكن تأثيراته ستصل إلينا عبر كافة الأشكال، وحينها يكون الثمن عاليا وعاليا جداًّ.

علمتنا تجارب الآخرين بأن لغة العنف والضرب هي أداة الضعيف وعلامة العجز عن مواكبة روح الإنسانية، والتغيير لا يتم بالضرب والهدم، لأن الضرب اعتداء على حق الانسان والطالب في التعلم والحياة، والعنف المغلف بالغيرة على هيبة ومصلحة العملية التعليمية او انه أسلوب تاريخي ساهم في بناء "الرجال" كما يحلو للبعض التغني به، هو أبعد ما يكون عن أي مضمون ايجابي، فهو بوابة الجحيم للكراهية والعداء، وهو الوصفة الجاهزة للتحطيم النفسي لروح الطالب وشخصيته العلمية، انه أقصر الطرق للفشل بكل ما في الكلمة من معنى.

العبرة ليست بتعالي الاصوات المنددة بالأسلوب او النتيجة أو المطالبة بإنزال أقصى العقوبات الإدارية بحق المعتدي، انما بالتوقف أمام هذه الأفاعيل بالتحليل المعمق لأسبابها وجذورها والعمل على تجفيف منابعها مهما كانت بداياتها، فالعنيف يخلق لنا أجيالاً من المؤمنين بالعنف والتطرف في علاقتهم بمجتمعهم، وسيكون ذلك وسيلتهم في مسيرتهم في الحياة، العنف ضد الطالب، هو نفسه العنف ضد زوجته وأسرته، وسيبقى العنف صوته وسلاحه كلما وجد الى ذلك سبيلاً.

لا تعليم مع العنف، لان الغاية لا تبرر الوسيلة في هذا المجال أبدا، لان التعليم بكافة مكوناته عملية نبيلة، الانسان هو غايتها والانسان المعلِّم هو أداتها، وأي خلل في تكوين أي من هذه المكونات سيعني انهيار القيم ومنظومة التعليم كاملةً، مصلحتنا جميعاً ألا نحوِّل حادثة الى ظاهرة، لكننا مطالبون بمحاربة أي ظهور لأي سلوك فردي والقضاء عليه قبل ان ينمو ويتحول الى حالة عامة يصعب علينا حينها اقتلاعها من جذورها، نحن مطالبون بتكامل جهود ومبادرات وأنشطة كافة الجهات المعنية بمنظومة التعليم الفلسطيني لمراجعة حوادث الضرب والعنف في المدارس، فالتكرار واعادة تنظيم سبل المواجهة ليس نقصاً او انتقاصاً من جهود وحرص تلك الجهات، لكن لقناعتنا بأن العنف لا ينتهي باجراء واحد او بمجرد إصدار تعميم أو كتابة مقال، هذه معركة ثقافة وتحتاج لجولات في ملاعب كثيرة، حتى وإن تكرر الضرب بيد وقانون من حديد يوضح للجميع بأن" الضرب بوابة الفصل".