عاجل

الرئيسية » ثقافة »
تاريخ النشر: 21 أيار 2022

صمت

إدغار ألان بو

"قمم الجبال في رقاد، والوديان، والصخور والكهوف صامتة"  

ألكمان

"أصغ إلي" قال الشيطان وهو يضع يده على رأسي. "المنطقة التي عنها أتحدث هي منطقة موحشة في ليبيا عند حدود نهر زائير وليس هنالك من هدوء، ولا صمت". 

"لمياه النهر لون زعفراني سقيم؛ وهي لا تدفق قدما بإتجاه البحر، بل تخفق أبدا تحت عين الشمس الحمراء بحركة هائجة تشنجية. على جانبي قعر النهر النزاز تمتد لأميال عديدة صحراء شاحبة من زنابق الماء العملاقة. تتنهد إحداها للأخرى في ذلك القفر وتمد باتجاه السموات أعناقها الطوال الشنيعة، وتهز رؤوسها السرمدية جيئة وذهابا. وهنالك همهمة غامضة تصدر عنها مثل إندفاع ماء تحت أرضي. وهي تتنهد الواحدة للأخرى".

"لكن هنالك حد لمملكتها– حد غابة مظلمة، مرعبة شاهقة. هنالك، ومثل الموج من حول هبرايدس، تهتز باستمرار الشجيرات الصغيرات. لكن ليس هنالك من ريح في السماء. والأشجار البدئية الطويلة تميد أبدا هنا وهناك بصوت جبار انهياري. ومن قممها العالية تقطر، الواحدة تلو الأخرى، ندى سرمديا. وعند الجذور تكمن أزهار سامة تتلوى في هجوع مضطرب. ومن فوق، بصوت هزيز عال، تندفع الغيوم الرمادية أبدا نحو الغرب، حتى تدفق، كهيل مائي، على سور الأفق الملتهب. لكن ليس هنالك من ريح في السماء. عند شواطئ نهر زائير ليس هنالك من هدوء، ولا صمت".

"كان الوقت ليلا، والمطر تساقط؛ وهو يسقط كان مطرا، لكن، بعد سقوطه، كان دما. ووقفت على الأرض السبخة وسط الزنابق الطوال، والمطر تساقط على رأسي– والزنابق تنهدت الواحدة للاخرى في إجلال إقفارها".

"وبغتة، طلع القمر عبر الضباب الرقيق المريع، وكان قرمزي اللون، وعيناي وقعتا على صخرة رمادية ضخمة تنتصب عند شاطئ النهر، أنارها ضوء القمر، والصخرة كانت رمادية، ومريعة، وطويلة– والصخرة كانت رمادية. حفرت على مقدمتها علامات كتابية؛ وسرت عبر سبخة زنابق الماء، حتى اقتربت من الشاطئ، كي أتمكن من قراءة العلامات الكتابية على الصخرة. لكنني لم أستطع فك رموزها. وكنت عائدا الى الأرض السبخة عندما أشرق القمر بإحمرار تام، فاستدرت ونظرت الى الصخرة، والى العلامات الكتابية؛ والعلامات كانت "إقفار".

"ونظرت الى الأعلى، كان هنالك رجل يقف على قمة الصخرة؛ فأخفيت نفسي بين زنابق الماء حتى يمكنني اكتشاف أفعال الرجل. والرجل كان طويلا مهيبا في هيئته، وكان متلفعا من كتفيه حتى قدميه بشملة رومانية قديمة، ومجمل شكله كان غامضا– لكن معالمه كانت معالم إله؛ لأن حجاب الليل، وحجاب الضباب، وحجاب القمر، وحجاب الندى، قد ترك ملامح وجهه واضحة. وجبينه كان شامخا باهتمام، وعيناه محملقتان بعناية، وفي بعض تجاعيد خده قرأت خرافات حزن، وسأم، وقرف من الجنس البشري، وتوق الى عزلة".

"وجلس الرجل على الصخرة، وأسند رأسه على يده، ونظر الى الإقفار. ونظر الى الشجيرات الواطئات غير الهادئات، والى الأشجار البدئية الطويلة، والى السماء ذات الهزيز، والى القمر القرمزي. واستلقيت أنا داخل مستتر من الزنابق، وراقبت أفعال الرجل. والرجل ارتجف في العزلة؛ - لكن الليل اقترب من نهايته، وجلس هو على الصخرة".

"والرجل ادار انتباهه عن السماء، ونظر الى نهر زائير الموحش، والى المياه الصفراء المريعة، والى حشود زنابق الماء الشاحبة. واصغى الرجل الى تنهدات زنابق الماء، والى الهمهمة الصادرة عنها. واستلقيت أنا لصق مكمني وراقبت أفعال الرجل. والرجل ارتجف في العزلة؛- لكن الليل اقترب من نهايته، وجلس هو على الصخرة".

"بعدها نزلت الى أعماق الأرض السبخة خضت بعيدا في وسط فلاة الزنابق، واستدعيت أفراس البحر التي تسكن وسط أعماق الأرض السبخة. وسمعت أفراس البحر ندائي، وجاءت، ومعها البهيموث، الى قاعدة الصخرة. وجأرت بصوت عال وبارتياع تحت القمر. واستلقيت أنا لصق مكمني وراقبت أفعال الرجل. والرجل ارتجف في العزلة؛- لكن الليل اقترب من نهايته، وجلس هو على الصخرة".

"بعدها لعنت العناصر بلعنة الصخب؛ والعاصفة المخيفة التأمت في السماء، حيث لم يكن من قبل ريح. والسماء صارت ممتقعة بعنف العاصفة – والمطر نقر على رأس الرجل – وانهال فيضان النهر– والنهر هيج الى زبد– وزعقت زنابق الماء في منبتها– وتصدعت الغابة أما الريح– والرعد هدهد– والبرق سقط– وهزت الصخرة حتى أساسها. واستلقيت أنا لصق مكمني وراقبت أفعال الرجل. والرجل ارتجف في العزلة؛- لكن الليل اقترب من نهايته، وجلس هو على الصخرة".

"بعدها غضبت ولعنت، بلعنة الصمت، النهر، والزنابق، والريح، والغابة، والسماء، والرعد، وتنهدات زنابق الماء. فأصابتها اللعنة وهمدت. والقمر لم يعد يترجرج في طريقه الى السماء– والرعد خمد– والبرق لم يومض– والغيوم علقت دون حراك– والماء غار الى مستواه وسكن– والأشجار لم تعد تهتز– وزنابق الماء لم تعد تتنهد– والهمهمة لم تعد تسمع منها، أو أي أثر لصوت عبر الصحراء الشاسعة اللامتناهية. ونظرت أنا الى العلامات الكتابية على الصخرة، وكانت قد تغيرت، والعلامات كانت: صمت".

"وسقطت عيناي على سيماء الرجل، وسيماؤه كانت شاحبة بالرهبة. وبعجلة، رفع رأسه من على يده، ووقف أماما على الصخرة وأصغى. لكن لم يكن من صوت عبر الصحراء الشاسعة اللامتناهية، والعلامات الكتابية على الصخرة كانت: صمت. والرجل ارتعد، وادار وجهه بعيدا، وولى هاربا بسرعة، لذلك لم أره بعدها".

 

*********

هنالك حكايات رائعة في كتب المجوس– في الكتب الصلبة المنخولية للمجوس. فيها، أقول، تواريخ مجيدة عن السماء وعن الأرض وعن البحر الجبار– وعن الجني الذي فرض سلطانه على البحر، وعلى الأرض والسماء الشامخة. كانت هناك أخبار كثيرة أيضا عن الأحكام التي نطقت بها السيبيلات؛ واشياء مقدسة، مقدسة، سمعتها منذ القدم الأوراق العاتمة التي اهتزت حول دودونا – لكن، وحياة الله، الخرافة التي حكاها لي الشيطان وهو جالس بقربي في ظل القبر، هي أروع القصص على الإطلاق. وعندما أنهى الشيطان قصته، سقط على ظهره داخل فجوة القبر وضحك. وانا لم أستطع الضحك مع الشيطان، ولعنني لأنني لم أستطع الضحك. والوشق الذي يسكن أبدا في القبر، خرج منه، واستلقى عند قدمي الشيطان، ونظر بثبات الى وجهه.

 --------------------

هوامش:

- جيروم يوزيبيوس ألكمان: شاعر أغريقي من القرن السابع  قبل الميلاد.

- هبرايدس: مجموعة من الجزر في المحيط الأطلسي غرب الساحل الأسكتلندي تعرف ايضا بالجزر الغربية.

- السيبيلات: اسم عام يطلق على أنثى متنبئة، وهناك العديد من السيبيلات في مناطق عدة من العالم القديم.

- دودونا: معبد للإله زيوس (تحت لقب نايوس) في أبيروس، مشهور لكونه مركز النبوءة. ذكر في الإلياذة والأوديسة ويظهر إن استجابات النبوءة تصدر عن شجرة بلوط مقدسة.

 

----------

ترجمة: زهير رضوان