الأراضي الحكومية بغزة... تخصيص لأصحاب النفوذ وتشريد للفقراء
"الحياة الجديدة" تفند بالحجة والبراهين ادعاء "سلطة الأراضي" في غزة: أراضي المندوب ليست حكومية
*مصادر لـ"الحياة الجديدة": هجوم أمن الحكومة المقالة على أراضي المندوب وابتزاز أصحابها جاء بعد إشغال وتوزيع معظم الأراضي الحكومية
"سلطة أراضي غزة" ساوت بين المعتدين على الأراضي الحكومية والحائزين لأراضي المندوب منذ أكثر من 150 عاماً.
بالأرقام: سلطة الأراضي التابعة لحماس خصصت أكثر من نصف مليون م2 منذ مطلع عام 2019
* قانونيون يؤكدون: أراضي "المندوب" ليست حكومية والاستيلاء عليها تعسف كبير
*خبراء يحذرون من تسريب عشوائي لأراضي الدولة لمتنفذين ومشاريع خاصة تجني حماس مكاسبها
غزة ـ الحياة الجديدة- يجلس المواطن سلطان محمد الأسطل كل صباح، على أنقاض منزله قيد الإنشاء الذي دمرته جرافات حماس مؤخرا بمدينة خان يونس، بحجة عدم الترخيص والبناء على أرض تدعي بأنها حكومية، برغم لا شرعية لحكومة حماس ما يجعل ادعاءها لا قيمة قانونية له، وقد فندت العائلة اداعات حماس بأوراق ثبوتية.
الأعمدة المدمرة، وبقايا الحجارة المتناثرة، وأشجار النخيل والزيتون المعمرة ملقاة في كل مكان، بدت كبقايا أرض خضراء اجتاحها الجراد فأصبحت كعذراء مغتصبة ذابت ملامحها خجلا وعارا على من دمرها، ورغم هذا المشهد الحزين يواصل الأسطل لملمة جراح أشجاره وأرضه معتذرا لها عما فعله مدعي المشيخة والحكم بما أنزل الله.
ورغم مرور أيام على الحادثة، فما زالت تبعاتها تتفاقم في مدينة خان يونس، وذلك كون الأرض المعتدى عليها تسمى "مندوب"، ويوجد فاصل من الخرسان منذ الاحتلال الإسرائيلي يفصل الأراضي الحكومية عن أرض "المندوب".
مشاريع حمساوية بأرض حكومية
وتقدر مساحة الأراضي الحكومية في قطاع غزة بحوالي 121 ألف دونم، بنسبة 31% من إجمالي مساحة قطاع غزة (365 كم مربع)، بينما تبلغ مساحة "أرض أهالي" (طابو) حوالي 184,573 دونما، وأراضي الوقف 772 دونما، بالإضافة إلى ما يقارب 20 عشوائية وبعض أراضي "المندوب" المنتشرة في جنوب القطاع.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005، أخلت إسرائيل 17 مستوطنة في القطاع، بمساحة 30 ألف دونم، بعضها كانت عبارة عن محيط أمني يملكها مواطنون فيما سيطرت حماس على البقية وحولتها لمشاريع سياحية أو زراعية أو حيوانية مقسمة على عدد من قياداتها، فيما منحت بعض الفصائل الموالية لها بعضا منها وحولتها لمواقع عسكرية وحصلت كتائب القسام على النصيب الأكبر من هذه الأراضي.
ووفقا لمحمد الشاعر المسؤول فيما تسمى بالإدارة العامة للمحررات التابعة لحماس، فإن 95% من أراضي المحررات هي حكومية واستولت عليها حماس، ويتم استغلالها في مشاريع زراعية وترفيهية وإسكانية وتعليمية.
وأقامت حماس في مدينة خان يونس مدينة أصداء الترفيهية على مساحة ألف دونم ويديرها أحد قيادتها فيما أقامت أيضا مدينة أخرى قرب "نيتساريم" تعود معظم إيراداتها للحركة ويوزع بعضها أموالا على قياداتها، بينما أقامت في أراض أخرى مشاريع إسكانية كـ"مدينة حمد" بخان يونس، وتوزيعها على عناصرها، ومنحت 13 ألفا من موظفيها أراضي حكومية عوضا عن مستحقاتهم المتراكمة وغير القادرة على تسديدها.
وضمن عملية توزيع الأراض الحكومية، حصل وكلاء وقضاة ووزراء سابقين (جميعهم قادة في حماس) على أراض حكومية في "منطقة المشتل" و"الفردوس" على شاطئ بحر غزة بينهم "رئيس سلطة أراضي حماس" ماهر أبو صبحة الذي أصدر قرارا بهدم منزل المواطن الأسطل.
وتقوم حاليا مؤسسات حماس بالإشراف على المشاريع الزراعية في المحررات، وتشير بعض الاحصائيات التي حصلت عليها "الحياة الجديدة" إلى زراعة عشرة آلاف دونم من المحاصيل الزراعية، بمعدل انشاء ثلاثة آلاف دفيئة زراعية، ومناطق لزراعة المانجا والتفاح والحمضيات والبطيخ (منعت حماس استيراد هذه المنتجات من إسرائيل لتجني أرباحا كبيرة مما تقوم هي بزراعته) إضافة الى اللوزيات والبصل الذي احتكره بعض قيادات الحركة شمال قطاع غزة.
أراضي المندوب "غير حكومية"
مصادر خاصة رفضت الكشف عن هويتها لخطورة الأمر قالت لـ"الحياة الجديدة": السبب الأساسي وراء الهجمة التي تقوم بها قيادات حماس، على أراضي المندوب، والابتزاز لأصحاب هذه الأراضي، يأتي بسبب إشغال وتوزيع معظم الأراضي الحكومية، ومحاولة للبحث عن أراضي جديدة للاستثمار وتوزيعها على بعض القيادات الجديدة أو استرضاء بعض الفصائل الموالية كما حدث مع المواطن الأسطل، ومحاولات ابتزازه لمنح المنطقة لإحدى الفصائل لإنشاء موقع عسكري.
المستشار القانوني أمجد نعيم الأغا أكد بإلحاح أن أراضي "المندوب" ليست أراضي حكومية مطلقا، وأن ما تقوم به سلطة حماس هو إجحاف وتعسف، مضيفا: الأصل في الإثبات أن البينة على من إدعى وهنا سلطة الأراضي تدعي أن أراضي المندوب حكومية لكنها لم تبرز أية بينة على ذلك.
ويعود أصل قصة أراضي المندوب إلى حقبة الانتداب البريطاني عام 1917، حين قرر الجنرال موني وقف جميع معاملات ملكية الأراضي الأميرية الخاصة، وأغلقت دوائر تسجيل الأراضي (الطابو) كون السلطات التركية استولت خلال انسحابها الى دمشق على جميع دفاتر (الطابو).
وقام المندوب السامي البريطاني بضم مساحات شاسعة من محافظتي خان يونس ورفح الى طائفة الأراضي الحكومية، وتقع معظمها شرق المحررات وصالحة للزراعة، أما الأراضي الواقعة غرب المحررات (المواصي الآن) لم تكن قابلة للزراعة كونها كثبانا رملية وتقدر مساحتها في محافظة خان يونس بحوالي (6820) دونما وبمحافظة رفح بحوالي (2290) دونما.
وبعد قرار المندوب البريطاني اتفق المواطنون المتواجدون في الأراضي غرب المحررات أيام سلطة الانتداب على تطويب (تسجيلها رسميا) أي الأراضي المنخفضة القابلة للزراعة ودفع الضرائب مقابل ذلك، فيما تبقى الأراضي المرتفعة المتمثلة في الكثبان الرملية دون تطويب، ولكنها تبقى حيازتهم استعمالا واستغلالا، وسميت منذ ذلك الحين بأراضي (المندوب السامي البريطاني) كونها تنسب له ولكن لحائزيها حق التصرف بها كاملا.
ووفقا للوقائع التاريخية فقد استقر التصرف في أراضي المندوب منذ ما يزيد عن مئة عام لحائزيها، ويظهر ذلك في عمر الأشجار والمباني وتوارث الأجيال لها والتعامل وفق منطق الملكية الكاملة.
ويشير المستشار الآغا إلى أنه ورغم وجود تمييز واقعي بين الأراضي الحكومية والمندوب إلا ان سلطة الأراضي بغزة لا تتعامل معها سوى انها أراضي حكومية وتعتبرها تتبع بيت المال ولا يجوز التصرف فيها.
وأضاف: إلا أن هذا التكييف القانوني للأراضي المندوب الذي تتبناه سلطة الأراضي يجافي الواقع؛ حيث أثبتت وثائق ومراسلات لدى الجمعية الزراعية في خان يونس مرسلة من مأمور التسوية إلى أمين سر الجمعية آنذاك سنة 1948 يتوجه مأمور الأراضي عفيف أسعد ممثلا عن المندوب السامي بالاعتذار عن الاستمرار في تسجيل الأراضي (المندوب) وتسويتها بسبب دخول المحتل الإسرائيلي، وهو ما يُشكل قرينة على خصوصية هذه الأراضي".
حماس تحاول الاستيلاء على أراضي "المندوب"
وفي عام 2013 أصدرت حماس قرارا بتخصيص 45٪ من أراضي المندوب للحائزين عليها مقابل سداد ثمنها، وذلك وفقا لإجراءات محددة تقوم بها لجنة خاصة، ويتم تسجيل الأرض بعد سداد ثمنها باسم المستفيد لدى (الطابو)، فيما تستولي سلطة حماس على 55٪ من تلك الأراضي لصالحها.
وبعد جدال وخلاف واحتجاج على القرار السابق المتعلق بدفع ثمن الأراضي التي يملكها السكان، قامت حماس بتعديل القرار بمنح 18٪ فقط للحائزين دون مقابل وتسجيلها بأسمائهم والاستيلاء على 82٪ "لسلطة الأراضي".
ويقول الآغا في دراسة قانونية حصلت عليها "الحياة الجديدة": ان تلك التسوية تنطوي على إجحاف وتعسف لأن أراضي (المندوب) تتمتع بخصوصية تقترب من التكييف القانوني والواقعي الى الأراضي "الموات" التي أحياها السكان، إضافة الى عدم مراعاة الظروف التاريخية التي أحاطت بتسمية هذه الأرض باسم (المندوب) والتي جاءت في اطار مشاريع التسوية التي قامت بها حكومة الانتداب البريطاني، ولم تراع مصالح السكان وكان هدفها استعماري لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين
ويشير كتاب (شرح قوانين الأراضي) للدكتور درويش الوحيدي إلى أن قانون التسوية الذي سنه الانتداب البريطاني هو الذي استحدث تسمية الأراضي بالـ"مندوب"، وذلك في إطار مشروع استعماري يرمي إلى سلب الأراضي من مالكيها وتمكين الصهاينة من الاستيطان بها، ونص على أن الأراضي التي لم يتمكن الحائزون من إثبات ملكيتها بمستندات سُجلت باسم المندوب السامي البريطاني (كأمانة) أي كوديعة أي إجراء إداري توثيقي فقط وليس إقرارا للملكية.
ويقول الآغا: لا يسري على الأراضي المندوب القانون 5 لسنة 1960 بشأن إزالة التعديات عن الأراضي الحكومية بقرار إداري، وعدم سريان التقادم المكسب عليها؛ وذلك لأنه لا ينسحب على هذه الأراضي صفة الأراضي الحكومية، والأهم أن الحيازة لهذه الأراضي سابقة لصدور هذا القانون بعشرات السنين ولما كان القانون لا يطبق بأثر رجعي فإن هذا القانون لا يطبق عليها.
ويعلق الآغا على إجراءات "سلطة أراضي حماس" بالقول: قرار الاستيلاء على أراضي المندوب ينطوي على تجريد الحائزين لها من حق الملكية الهادئة والمستقرة والمستمرة لسنوات دون شغب أو منازعة من الغير، فإذا كان القانون يقر بالتقادم المكسب للملكية للملك الخاص وإن كان مسجلا فما بالك إذا كان التقادم يسري أضعاف المدة على أملاك باشر عليها أصحابها حقوق الملكية الكاملة استعمالا واستغلالا وتصرفا وقاموا بإحيائها بعد أن كانت بورا متروكة عبارة عن كثبان رملية مهملة.
ويضيف الآغا: قرار "سلطة" حماس يتنافر مع العديد من المبادئ القانونية الراسخة لا سيما في مجلة الأحكام العدلية مثال: مادة (5) الأصل بقاء ما كان على ما كان، مادة (6) القديم يترك على قدمه، مادة (10) ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه، فإذا ثبت في زمان ملك شيء لأحد يحكم ببقاء الملك ما لم يوجد ما يزيله، وبالتالي فإن ملكية الأراضي المندوب لحائزيها تبقى ما يظهر ما يدحض هذه الملكية".
ويوضح الأغا: كنا نتوقع أن تقرر الحكومة للحائزين نسبة محددة هبة بلا مقابل (وهو أضعف الإيمان) ولكن أن تُخصص للحائز 45% مدفوعة الثمن بامتيازات وتسهيلات وهمية فهذا ينطوي على ظلم بيِّن ويدعو للاستغراب الشديد لأنه يساوي بين المتعدين على الأراضي الحكومية وبين الحائز لهذه الأراضي منذ ما يزيد عن 150 عاما.
تخصيصات مجهولة ومعلومة "بالجملة"
وحسب "موقع سلطة أراضي حماس" فإن مجموع مساحة القطاع تبلغ 365 ألف دونم، منها 112ألف دونم مساحة الأراضي الحكومية، فيما تبلغ مساحة التعديات على الأراضي الحكومية 12 ألف دونم، أما مساحة الأراضي الحكومية الخالية من التعديات وتشغلها "سلطة حماس" فتقدر بحوالي 25 ألف دونم.
والملفت في قراءة ما يحتويه "موقع سلطة أراضي حماس" هو مساحة الأراضي التي خصصت بعد الانقلاب عام 2007، والتي قدر مجموعها بآلاف الدونمات، فيما استولى بعض أصحاب النفوذ والقائمين على أجهزة أمن حماس ومؤسساتها الحكومية والحزبية على الأراضي الحكومية وخصصوها لهم بهدف الانتفاع الخاص، فيما قام آخرون ببيعها دون وجه حق تحت ستار "التخصيص" كما يقول "رئيس سلطة أراضي حماس" ماهر أبو صبحة بأنه حصل على قطعة أرض مقابل مستحقاته المالية ويحاول بيعها ولكن يوجد عقبات لذلك.
وذكر أهالي منطقة المواصي غرب خان يونس لـ "الحياة الجديدة" أنهم نظموا عددا من الوقفات الاحتجاجية على قرار حماس بمصادرة أراضيهم مطالبين بوقف تنفيذ القانون البريطاني، وهدم البيوت واقتلاع الأشجار، مؤكدين ملكيتهم لأراضي المواصي منذ عشرات السنين.
وتشكل منطقة المواصي ثلث مساحة المحافظات الجنوبية، وتعتبر سلة قطاع غزة الزراعية، وتعتمد العائلات التي تقطنها وأبرزها "الآغا، والفرا، والشاعر، والمجايدة، وزعرب، والعقاد، والنجار.."، على الزراعة وفلاحة الأراض.
وترفض البلديات التي تسيطر عليها حماس منح المواطنين التراخيص اللازمة للبناء في أراضي المندوب التي يملكونها منذ عشرات السنين منذ العام 2008، وتمنعهم من البيع أو الشراء باعتبارها أراضي حكومية.
وحصلت "الحياة الجديدة" على أرقام مرعبة بقضية تخصيص الأراضي الحكومية وإهدارها في قطاع غزة، في وقت يحذر خبراء من هذا الإهدار غير المنظم، والذي سيؤدي إلى كوارث سكانية وبيئية واستراتيجية على المدى البعيد، خاصة بأننا نعيش في أكثر بقعة كثافة للسكان في العالم.
وتشير الأرقام إلى قيام سلطة أراضي حماس بتخصيص أكثر من نصف مليون متر مربع منذ مطلع عام 2019 وحده ، ومن بين هذه التخصيصات أراض لإنشاء مشاريع زراعية بمساحة 385 ألف م2، وإنشاء مساجد ومشاريع إسكانية ومراكز رعاية للفئات المهمشة تقدر بحوالي 16 ألف م2، وأراض لإنشاء مشاريع الطاقة الشمسية إضافة إلى إنشاء عدد من المشاريع التي تنفذها الوزارات المختصة".
مواضيع ذات صلة