مرضى التليف الكيسي في غزة.. ضحايا تشخيصات عشوائية وتكاليف علاج باهظة
209 مرضى مسجلون لدى وزارة الصحة ضعفهم غير مسجل و٩ وفيات لقلة العلاج
غزة – الحياة الجديدة- التحقيقات الاستقصائية - تحقيق: علاء الهجين ومحمد فروانة -
اعتادت أم سليم سلامة البالغة من العمر "39 عامًا" من سكان بيت لاهيا اصطحاب ولديها المصابين بمرض التليف الكيسي الى مركز أصدقاء مرضى التليف الكيسي بحي النصر بمدينة غزة لمتابعة علاجهما.
ام سليم تجد في مركز أصدقاء مرضى التليف الكيسي رعاية لأطفالها اكثر مما تنتظره عندما تتوجه لمؤسسات ومشافي غزة التابعة لوزارة الصحة لافتقارها أطباء مؤهلين ومختصين وللنقص الكبير في الادوية التي يحتاجها المرضى لتبقيهم على قيد الحياة.
18 عامًا تحملت ام سليم ليرزقها الله المولود الاول، ولكن فرحتها لم تكتمل نتيجة شكوك من قبلها بأن طفلها الصغير في الحجم مصاب بمرض ما، فتوجهت الى مشافي الاطفال التابعة لوزارة الصحة بغزة، وبعد فحوصات عدة ومتابعة حالة الطفل استمرت اشهرًا عديدة أتي لها الخبر الصاعق بأن طفلها مصاب بمرض خطير وهو مرض التليف الكيسي، ومن الممكن أن يفارق الحياة بأي لحظة.
التليف الكيسي مرض وراثي يصيب الغدد العرقية والمخاطية وغالبًا ما يصيب الرئتين والبنكرياس والكبد والأمعاء والجيوب والأعضاء التناسلية، وتؤدي الإصابة إلى جعل المخاط ثخينًا لزجًا يسد الرئتين مسببًا مشاكل تنفسية ويخلق بيئة مواتية لنمو الجراثيم، ويؤدي ذلك إلى حدوث المزيد من المشاكل مثل التهابات الرئتين المتكرر وتلفها، وتتفاوت أعراض الإصابة وشدتها من شخص لآخر بحيث يعاني بعض المرضى من مشاكل خطيرة في التنفس، ويعرف المرض "بضعف النمو وفقدان الوزن أو المرض القاتل.
250 حالة مصابة مرض التليف الكيسي مسجلة لدى وزارة الصحة بغزة، ويعانون من سوء الخدمة وشح الادوية وغلائها ونتيجة الأوضاع الصعبة التي يعيشها الاهالي في القطاع، قد يضطر البعض منهم لتقليص كمية العلاج للطفل المريض ما قد يؤدي لمضاعفات تصل حد الموت، مئات المصابين بهذا المرض غير مسجلين لصعوبة تشخيصه، فتشخيص الحالة قد يستغرق 4 أشهر.
تقول ام سليم: "في بداية الامر لم أكن على وعي بطبيعة المرض، فكنت دائمة الذهاب الى مشفى النصر التخصصي، والاطباء فحصوا حالة طفلي بالعديد من الفحوصات والتي اثبتت فشلها في بداية الامر، ولكن بعد فترة اكتشفوا أن طفلي مصاب بالمرض وكان وقتها بعمر 5 أشهر".
وتضيف: "نعاني من التكاليف الباهظة لتوفير العلاج اللازم لطفلنا الذي يتناول بشكل يومي 25 من كبسولات الكوريون 10000 Creon" 1000" أي ما يعادل 15 علبة شهريًا وما يزيد عن 1200 شيقل شهريًّا فقط للفيتامينات، اضافة الى انه يحتاج الى حوالي 8 وجبات رئيسية من الطعام المكون من الدهون والزيوت لتعويض النقص وطفلها يحتاج لنوع مخصص من المضادات الحيوية الخاصة تبلغ تكلفتها 600 شيقل شهريا".
وتوالي: "عندما يبلغ طفلي 12 عامًا سيتم نقله بقرار من وزارة الصحة لمشفى كمال عدوان الامر الذي سيؤدي لتبعات صحية سلبية على صحته كون مشفى كمال عدوان غير متخصص، وسيتعاملون مع ابني بأنه مريض عادي اضافة لعدم وجود العناية الكافية كالمتاحة في مشفى النصر التخصصي".
وتؤكد أنها مجبرة على دفع 30 شيقلا بين الفترة والأخرى للحصول على تقرير طبي للحصول على اعفاء جزئي لا يشكل الا نسبة قليلة من تكاليف العلاج، وزوجها لا يتقاضى سوى 1000 شيقل شهريا وبشكل متقطع نظرًا للوضع الاقتصادي السيئ الذي تعيشه وأسرتها وابنها وحده يحتاج تكلفة علاج ضعفي راتب زوجها.
ويعاني ذوو مرضى التليف الكيسي من عدم اكتشاف إصابتهم بالمرض إلا بعد مكوثهم في المستشفى لعدة أشهر، لعدم وجود متخصصين، كما أن اكتشافه يحتاج لإجراء تحاليل مخبرية خاصة كما تقول ام فادي الميناوي التي تعالج طفلين لها من هذا المرض وهما فادي وسحر.
وتؤكد الميناوي من سكان حي الرمال غرب مدينة غزة أنه تم تشخيص مرض فادي عندما كان يبلغ العامين ونصف العام تقريباً، وكانت علامات الاصفرار على وجهه ملفتة، ببداية الامر ظنت أنه مرض عادي ويزول بعرضه على طبيب يشخص حالته ويتناول دواءه مع مرور حوالي 10 اشهر اثبتت الفحوصات أنه مريض بالتليف الكيسي وشرح لها الطبيب أن هذا المرض لا علاج شافيا له وان ابنها سيفارق الحياة بعد اشهر عدة.
وتوضح ان علامات المرض تظهر بين الفينة والأخرى وأبرز ما يصيب اطفالها التعرق الشديد والاسهال المتكرر ووجود اضطرابات في النمو عوضًا عن المشاكل التي تصيب الجهاز التنفسي مسببة ضيقًا بالتنفس.
تشخيصات عشوائية.. وتكاليف باهظة
وتؤكد أن طفليها يحتاجان لعلاج مكلف وزوجها لا يعمل منذ عدة شهور، فابنتها سحر تحتاج 10 كبسولات من الكوريون يوميًّا، وحليبًا مخصصً يسمى (انشور) لزيادة الوزن وتكلفة الحليب من (8-11) شيقل وحجم العلبة 250 مليمتر فهي تحتاج بشكل يومي لهذا النوع من الحليب، وفادي الذي بلغ الـ10 سنوات يحتاج 25 كبسولة "الكوريون" ليستطيع ممارسة حياته بشكل طبيعي ناهيك عن المتطلبات الغذائية التي يفضل ان تحتوي علي الدهون والزيوت كالدجاج واللحم والسمك وهذا يشكل عبئًا كبيرًا".
أم العبد عز الدين من سكان تل الهوى تكشف عما أصاب ابنتيها فاطمة البالغة من العمر حاليا 15 عامًا، وملاك البالغة 13 عامًا" بقولها: "لا أصدق ان بنتيَّ على قيد الحياة لهذه اللحظة"، وتؤكد عندما كان عمر ابنتها فاطمة عامين ونصف العام كانت تتردد على المستشفى بشكل مستمر لظهور عليها اعراض غير طبيعة كالجفاف والاسهال السعال المتكرر، ولم يتمكن الأطباء من تشخيص مرضها نظرا لعدم وجود الامكانيات الكافية للتشخيص فاضطرت للسفر لمصر وعندما انجبت اختها ملاك كانت تظهر عليها الاعراض نفسها الامر الذي جلعها تضطر للسفر لمصر وهناك تم اكتشاف أنهما مصابتان بهذا بالمرض.
علاج طبيعي
يؤكد محمود سهمود اخصائي العلاج الطبيعي أن التليف الكيسي مرض وراثي من الدرجة الاولى والمشكلة تبرز في ان المرض غير متعارف عليه، والمريض يحتاج للعلاج الطبيعي بشكل يومي لمدة 30 دقيقة، حيث يشمل العلاج رج القفص الصدري بواسطة اليد بعد تمديد المريض في أوضاع تسمح بخروج الإفرازات اللزجة لتنقية القنوات التنفسية، ويمكن أن يقوم بالعلاج أخصائي العلاج الطبيعي أو أحد الوالدين.
ويضيف: مرضى التليف الكيسي الذين في أغلبيتهم من الأطفال في مستشفى النصر للأطفال، إضافة إلى قسم الصدرية في مجمع الشفاء الطبي بغزة لمن هم فوق سن الثانية عشرة عامًا، ناهيك عن وجود 60 حالة مقسمة الى ذكور واناث بمشفى الرنتيسي التخصصي، لكنهم يعانون نقصًا في العلاج.
ويقر اخصائي أمراض الأطفال ورئيس قسم الباطنة بمشفى الرنتيسي بغزة د. عبد الله حسب الله بوجود شح في نوعية العلاج الذي يقدم لمرضى التليف الكيسي، ويقول وهو المختص بمتابعة مرضى التليف الكيسي: "حالة المرضى تسوء وتتراجع إذا لم يتناولوا العلاج وبالكميات المطلوبة، داعيا المؤسسات الخيرية لمساعدة وزارة الصحة في تقديم العلاج لهؤلاء المرضى الذين يحتاجون لرعاية خاصة وعلاجهم مكلف".
استهتار بحياة المرضى
ويوضح حسب الله ان مرض التليف الكيسي وراثي ينتقل، ونسبة الاصابة بالمرض تحدث لكل شخص من بين 2500 مولود وهو معدل عالمي.
ويؤكد ان مشفى الرنتيسي يعتبر الوحيد على مستوى القطاع المتخصص بمعالجة مرضى التليف الكيسي، و3 أطباء مختصون بمتابعة ومعالجة المرضى.
ويضيف: "بعض حالات المرضى يتابعون بقسم الصدرية بمشفى الشفاء بغزة على أنهم مرضى عاديون ومن قبل أطباء غير مختصين بهذا المرض وعدم المقدرة الكافية على التعامل معه ما قد يعرض المريض للخطر ويتسبب في وفاته".
مركز أصدقاء مرضى التليف الكيسي
ويعيش مرضى التليف الكيسي أوضاعًا غاية في السوء ما حدا بالمهندس أشرف الشنطي والد لطفلين محمد ومصطفى المصابين بالمرض بمعاونة عدد من المختصين والأطباء على إنشاء مركز أصدقاء مرضى التليف الكيسي في محاولة لعلاج المرضى.
ويقول الشنطي: "كنت وزوجتي نتجمل بالصبر ونتسلح بالعزيمة، نسخر طاقاتنا كلها من أجل خدمة هذين الطفلين، فكانت رحلة البحث عن العلاج أشبه برحلة عذاب مستمرة، فالأطباء بمشافي القطاع التابعة لوزارة الصحة لا يجيدون تشخيص هذا المرض، فقضينا جل وقتنا ونحن نقطع المسافات البعيدة والقريبة لنوفر لهما ما يكفل لهما مجرد البقاء، ووسط الحصار والعذاب اللذين يعيشهما قطاع غزة منذ سنوات".
ويضيف: "تمكنا بعد عناء من الحصول على الهوية التي تتيح لنا الخروج من قوقعة الحصار في قطاع غزة، فكان علينا أن نستميت من أجل الحصول على تصريح يسمح لنا بالمرور عبر الحواجز والمعابر من قطاع غزة إلى المستشفيات داخل الخط الأخضر حيث يمكن أن نحصل على شيء من العلاج في المستشفيات الإسرائيلية والمصحات العربية في القدس المحتلة إلى أن استطعنا بعد عناء طويل الحصول على ما يحفظ لابنينا أمل الوجود دون أن نأمن القلق الدائم على مصيرهما إذا تقطعت بنا السبل ولم نستطع ضمان الاستمرار في الحصول على العلاج" .
ويؤكد الشنطي أن مرض التليف الكيسي يظهر عند الحمل وتكون الجنين، ولكن الأعراض لا تظهر إلا في السنة الأولى بعد الولادة ويصيب الأطفال من كلا الجنسين بالتساوي بنسبة 1-25%، إذا كان كل من الوالدين يحملان نفس جينات المرض.
ويتابع: " أتينا حالات مريضة للمؤسسة لتوفير لهم المضادات الحيوية والتبخيرات والفيتامينات اللازمة والتي تتميز بسعرها الباهظ الثمن وشحها بوزارة الصحة".
ويوضح أن المريض يحتاج يوميًّا لـ 4 تبخيرات وما يزيد عن 25 كبسولة من الكوريون والعديد من الفيتامينات المخصصة، فضلاً عن ضرورة التزام المريض بأخذ وجبة غذائية كل 3 ساعات لكي يتناول الانزيمات ويستفيد جسمه من الطعام والفيتامينات غير الموجودة في جسم المصاب وتتراوح عدد الوجبات من (10-12) وجبة يوميًّا، ما يشكل عائقًا امام الاهل لتوفير الادوية والوجبات التي يفضل ان تحتوي على الزيوت والدهون كالدجاج واللحم وما شابه ذلك .
ويؤكد ان الادوية التي يتناولها المرضى تعتبر بديلة عن الاصلية نتيجة الارتفاع الجنوني على سعر الادوية الاصلية التي يبلغ فيها سعر علبة الكوريون 188 دولارًا ناهيك عن الادوية التي تصل سعرها الى 24 الف دولار لذلك يتم استقطاب ادوية بديلة عن الادوية الاصلية .
ويشدد الشنطي على ضرورة متابعة المرضى بشكل مستمر لأن الاهمال سيؤدي بالمريض الى الحاجة لزراعة الرئة فيما بعد، نظرا لإصابة المرض الجهاز التنفسي والهضمي والذي قد يؤثر على الكليتين ويعرض المصاب لخطر الموت.
ويؤكد أن وزارة الصحة لا تقدم الدعم المناسب لمصابين التليف الكيسي، موضحاً انها تكتفي فقط بإرسال المصابين لمؤسسات خارجية تعتني بهذه الفئة من المرضى لعدم تحملها المسؤولية.
ويشير الى أن عدم وجود متخصصين بالمرض أدى لتفاقم حالات المرضى، مطالبًا بضرورة وجود مشاف متخصصة لاحتواء مرضى التليف الكيسي، وتوفير مساعدات ودعم مالي من قبل المؤسسات الخيرية والمعنية.
ويشير الى عدم وجود جهات خيرية تتبنى علاج مرضى التليف الكيسي، وعدم تفهم وزارة الصحة لمعاناتهم وإدراج علاجهم ضمن موازنتها الدائمة.
وبينما رفضت وزارة الصحة ممثلة بالإدارة العامة للمستشفيات وادارة الاطباء والصيادلة في قطاع غزة الاجابة على اسئلة "الحياة الجديدة"، فان مصادر رسمية في وزارة الصحة في رام الله ، اكدت وجود هذا المرض في الضفة مع الاقرار بعدم وجود احصائيات رسمية حول هذا المرض ونسب الاصابة به.
ورغم الاشارة الى تباين تكاليف العلاج التي يتكبدها اهالي المرضى فان حياتهم تبقى مهددة بالخطر طالما أن وزارة الصحة لا تضعهم ضمن برامجها وتوفر العلاج اللازم لهم.
مواضيع ذات صلة