غزة : "ضرب المدفع"؟.. طقوس إسطورية لا زال عبقها باقِ
غزة- الحياة الجديدة- توفيق المصري- على شرفة غرفته وقف الطفل فيصل ينتظر وعلامات اللهفة تجوب محياه، 12 عاماً قضاها من عمره ولم يسمع في رمضان صوت اسطورته الحقيقية.
وبعدما انطلق مسرعاً وبلهفة وشوق نحو نافذة غرفته، فتحها وبقي ينتظر اطلاق مدفع رمضان، ليعلن بذلك موعد الإفطار، ذلك الظن ظل مرافقاً للطفل فيصل على مدار أعوام؛ لأن الإسطورة التي يراها عبر شاشات التلفاز في رمضان لا زالت باقية في مخيلته.
يقول فيصل" اسمع كثيراً عن مدفع رمضان(...) وأراه أيضاً عبر شاشات التلفاز، ولكنني لم أسمع صوته ولم أره في حياتي، ويقول لي والدي بأنه موجود في قطاع غزة، لكنه لا يتم استخدامه، ولم يعد له أي اهتمام".
وتمنى الطفل فيصل بأن يشبع شوقه لصوت مدفع رمضان وهو يطلق قذيفته، كما وتمنت أخته الأصغر منه نانسي بأن تسمع صوت المدفع ولو لمرة واحدة في حياتها.
واستهجنت الفتاة أميرة من عدم استخدام مدفع رمضان أو إعادة إحياؤه لمرة واحدة في شهر رمضان من كل عام، واعتقدت أميرة بأنه لو تم استخدامه مرة واحدة من كل شهر رمضان من كل عام، بأنه سيحفظ هذه الاسطورة التاريخية في ذهن كل طفل بل وسيجعلها أكثر مصداقية، كونها هيَّ أيضاً سمعت عنه ولم تسمع صوته.
واعتبر الحاج خليل بأن فرحة إطلاق قذيفة مدفعية رمضان بأنها لا تضاهيها فرحة للأطفال وللكبار حتى.
وتمنى بإعادة إحياؤه، وطالب المؤسسات التعليمية في القطاع بضرورة توعية الطلاب بهذه الإسطورة وكيف تحول المدفع على مر التاريخ من مدفع لرسالة فرح في شهر رمضان، كما وطالب بتنظيم رحلات مدرسية لبلدية غزة لاضطلاع الطلاب على المدفع المتبقي في القطاع والذي تحتفظ به البلدية في مقرها بغزة.
أُبطل استخدامه منذ عام 1967
ويوضح مدير عام الهندسة والتخطيط في بلدية غزة الدكتور نهاد المغني أن هذه المدافع انتشرت في نهاية القرن التاسع عشر، وتم استخدامها في العديد من المدن في منطقة الشرق الأوسط، وذلك للتذكير بموعد الإمساك والإفطار في شهر رمضان المبارك، وأيضاً في الأعياد، ولفت إلى أن المدن كانت محدودة المساحة، وكان يستخدم هذا النظام للإعلان؛ لأنه لم يكن يوجد مكبرات صوت في المساجد أيضاً كما هو حالياً.
مدفع رمضان كان ينطلق لتعريف كل سكان المدينة، حيث كان يطلق منه قذيفة في وقت الإفطار مع آذان المغرب، وكانت الناس تعرف معه بأنه حان موعد الإفطار وفي موعد الإمساك وفي الأعياد، وإضافة لذلك حيث كان يطلق منه عدة قذائف؛ لإدخال الفرح والسرور لقلوب الناس ولإشعارهم بأن موسماً جديداً يستجد عليهم.
ويضيف الدكتور المغني بأن المدفع كان شيئاً وظيفياً لإبلاغ الناس، وقال" الآن تغيرت الحياة وتطورت وأصبح يوجد مكبرات صوت في المساجد وأصبح متوفراً لدى كل شخص ساعات تنبيه فأصبح ليس له أي لزوم، لكنه يبقى جزءاً تراثياً وجزء من حياة الناس ومن فونوغرافيا الناس، حتى أن بعض الناس حتى الآن ولوقتنا الحاضر يقولوا ضرب المدفع؟ ويتساءلوا هل ضرب المدفع، لافتاً أنها أصبحت كلمة "ضرب المدفع" مرتبطة بأنه حان موعد الإفطار.
المدفع التركي الأصل كما يقول الدكتور المغني ويوضح أنه المدفع الوحيد والمتبقي في القطاع، ويعود لنهاية القرن التاسع عشر 1870، وأن هذا المدفع كان موضوعاً في المدينة وفي منطقة خالية "منطقة منتزه البلدية" وذلك حتى الاحتلال في العام 1967 وأبطل استخدام المدفع لغرض التذكير بموعد الإفطار والصيام.
وأشار الدكتور المغني بأن المدفع ظل مهملاً ومتروكاً في مخازن البلدية، غير أنه في العام 1995 ومع عودة السلطة الوطنية الفلسطينية وتشكيل مجلس بلدي جديد برئاسة المرحوم الحاج عون الشوا، حيث أصدر قراراً باستخراجه وترميمه ودهانه ووضعه في البلدية لإبراز أهميته.
ونوه الدكتور المغني بأن أعمال الترميم والتأهيل وتجميع قطع المدفع كان بجهود خاصة ولم يكن لأي جهة أية دور؛ لأنه ملكاً لبلدية غزة.
وأشار إلى أن البلدية كانت هي المسئولة عن تشغيل المدفع على مدار عقود تاريخية، لافتاً أن البلدية هي الحكومة المحلية وهي المرتبطة بحياة الناس وبخدماتها وبما تقدمه من خدمات، وأن موضوع المدفع كان جزءاً من مهام بلدية غزة، وأن البلدية كانت تضع موظفاً لتشغيله.
وأضاف الدكتور المغني بأن" هناك أشياء كثيرة وجوانب كثيرة موجودة من تراثنا ونأمل ليس فقط تذكرها في تقرير صحفي، بل أن تسعى الجهات المختصة بأن تبحث عن الجوانب التراثية، وأبنيتنا وحاراتنا وعاداتنا وتقاليدنا لمحاولة ليس للرجوع لها فنحن نعيش عصر معين وعلى الأقل أن يكون هناك دمج وتوافق بين الأصالة والمعاصرة، حيث يجب أن ننظر دائماً للأمام ونجعل نظرة بسيطة للخلف، ونربط نفسنا بعاداتنا وبالتقاليد وبالموروث الثقافي القوي والغني جداً والمستمد من التاريخ الفلسطيني والتاريخ الإسلامي؛ لأن ثقافتنا مرجعيتها إسلامية أيضاً".
خبايا الاسطورة الرمضانية
وتوضح الباحثة في علم الآثار والمسئولة في وزارة السياحة والآثار بغزة الأستاذة هيام البيطار بأن مدفع رمضان هو أحد التقاليد التي كان معمول بها خلال العصر العثماني، حيث بدأت هذه الفكرة في أواخر عهد الدولة المملوكية أو العصر المملوكي تحديداً عام 865ه، في القرن الثالث عشر الميلادي عندما حاول السلطان المملوكي أحد سلاطين الدولة المملوكية البرجية السلطان حوش قدم بتجربة نوعية جديدة من المدافع، فأطلقت قذيفة من المدفع التي كان يراد تجربتها بالتوافق مع آذان المغرب، فظل هذا التقليد معمولاً به "وهذا قول"، والقول الآخر يقال بأنه أول ما ظهر في مصر في القاهرة عندما حولت الدولة العثمانية وخاصة في عهد الخديوي إسماعيل عندما أراد تجربة نوعية جديدة من المدافع التي تعمل بالبارود فقام بتجربتها في وقت كان مزامناً لأذان المغرب "موعد الإفطار" فابتهج الناس به وحثته ابنته فاطمة على هذا الأمر وشجعته، فأصدر فرماناً بهذا الخصوص حتى أنه سمي في القاهرة في ذلك الوقت باسم مدفع فاطمة".
وأشارت البيطار بأنه طالما أنه كان معمولاً به في مصر، أنه كان معمولاً به في بلاد الشام وفي كل مدن بلاد الشام، حيث انتشرت المدافع للإعلان بوقت الإفطار وأيضاً الإعلام بوقت الإمساك، وأيضاً الإعلام بوقت ظهور هلال شوال كآخر يوم في رمضان وللإعلام بأول يوم في عيد الفطر المبارك.
وأضافت البيطار بأن مدينة غزة كانت أحد المدن الخاضعة للسلطة العثمانية وكان يوجد بها مدفع.
وأوضحت بأن المدفع كان على أعلى منطقة في غزة وكان في منطقة تل المنطار وكان يضرب من الجهة الشرقية لغزة ليسمع صداه كل أنحاء مدينة غزة، ولفتت أن المدفع ظل معمولاً به حتى أواخر فترة الاحتلال أو فترة الحكم المصري لقطاع غزة وتحديداً الذي انتهى في عام 1967 عندما احتل قطاع غزة من قبل الاحتلال الصهيوني، فأوقف العمل بهذا المدفع الذي كان معمولاً به.
وأضافت الباحثة البيطار بأن إعادة إحياء هذا المدفع قد تم مع قدوم السلطة الفلسطينية في العام 1995 وإنشاء نظام البلديات بعدما كان مهملاً وموضوعاً في منطقة منتزه بلدية غزة، وأشارت البيطار أنه مع قدوم السلطة الفلسطينية وانشاء سلطات الحكم المحلي قد قام عون الشوا رئيس بلدية غزة بإصدار قرار بإعادة ترميم المدفع ونصبه على منصة في ساحة بلدية غزة وسط مدينة غزة، وذلك لكي يراه كل مواطن فلسطيني وتذكيراً بأحد أشكال التراث المعمول به في غزة.
وأشارت الباحثة البيطار بأن هذا المدفع هو تراث ديني واجتماعي ومرتبط من الناحية الدينية بغزة بشهر رمضان الكريم.
وتقول البيطار" ان المدفع الموجود لدى بلدية غزة هو آخر المدافع التي ظلت في قطاع غزة، ولا يعلم كم هي عدد المدافع التي كانت موجودة في غزة لكن مدفع بلدية غزة هو آخرها وهو المتبقي، والذي ظل موروثاً في أواخر الفترة العثمانية".
واعتقدت البيطار بأن مثل هذه المدافع أنه كان يتم استيرادها من مصر، وقالت البيطار" ان مصر في عهد محمد علي باشا الكبير وهو الوالي العثماني تحديداً في عام 1850 أنشأ داراً لصناعة الأسلحة، وبالتالي هذا المدفع يعتقد بأنه مستورد من مصر أو محتمل بأن يكون مستورد من مدينة القدس لأنه انتشر العمل بالمدافع بعد القاهرة وصل إلى القدس، ومن القدس ثم المدن الفلسطينية، وأيضاً مدن بلاد الشام ومن ضمنها دمشق".
وأضافت بأن كل مدينة فلسطينية كان يوجد بها مدفع، وكان يعمل به في أوقات الإفطار والإمساك وحتى الأعياد، وأنه وقت الأعياد يكون إطلاقه مميز في عدد القذائف حيث كان يطلق حوالي 19 قذيفة يومياً، إيذاناً بأن اليوم التالي هو يوم إفطار خاصة في احتفال المسلمين والسكان بعيد الفطر المبارك.
وتقر البيطار بأن هذا المدفع هو إرث ظل محتفظاً به في مخازن بلدية غزة وتم ترميمه في عهد رئيس بلدية غزة المرحوم عون الشوا، وظل في حفظ بلدية غزة، ولفتت البيطار" أن وزارة السياحة والآثار تشجع الحفاظ على الموروثات الحضارية التي امتلكها الشعب الفلسطيني على كافة حقبه التاريخية، وبالتالي نأمل بأن يتم العمل بهذا التقليد الشعبي المتوارث منذ أواخر العصر المملوكي وحتى أواخر العصر العثماني".
وعن رغبة وزارتها في امتلاك هذا الإرث ووضعه في أماكنها أو المتاحف، تقول البيطار" بأن هذا شيئ يتم بتنسيق إدارات ما بين الوزارات، وأنه إن كان يجب وضعه فوزارة السياحة والآثار سوف تكون أمينة كما كانت بلدية غزة أمينة على هذا الشيئ، وإن أرادت بلدية غزة الاحتفاظ به فنحن نشجعهم ونحن مكملين لهم في هذا الدور، وبالتالي الأمر في النهاية يجب أن يكون معروفاً لكل مواطن فلسطيني أن هذا تقليداً كان معمولاً به في سنوات سابقة".
وتوضح البيطار بأن غزة مدينة جميلة ومدينة عزيزة على كل مواطن فلسطيني وبأنه يجب على كل مواطن فلسطيني أن يفتخر بهذه المدينة التي كان لها أوليات في التاريخ ومنها أن أول عربة حربية صنعت في فلسطين كانت صنعت في غزة خلال العصر اليوناني وأوائل العصر الفارسي وبالتالي هذه العربة الحربية طبعاً هي امتداد لهذا المدفع وبالتالي يجب أن نكون فخورين بهذا الشيئ.
مواضيع ذات صلة