بروفيسور البلياردو
الحياة الجديدة- خاص- رحمة حجة- حين تسير بمحاذاة الرصيف الأيسر في الشارع الفرعي المحاذي لسوق الخضار في مدينة البيرة، قد تلمح عبارات تشي بمكان تُصنع فيه طاولات البلياردو وتُباع معدات اللعبة هناك، لكن من هو صانع البلياردو الذي يختبئ خلف الأبواب المفتوحة لـ"منجرة الجزيرة" التي لن تراها إلا إذا ابتعدت يمينها وقررت أن ترفع رأسك إلى أعلى نحو اللافتة، التي تنتصب هناك منذ عشرات الأعوام.
لم يكن الأمر بهذه الصعوبة لمعرفة "صانع البلياردو"، كما أن كلّ إجابة تستدرجك إلى سؤال آخر لتفاصيل أجمل، خاصة إذا عرفت، أن هذا الرجل السبعيني ذا العينين الخضراوين المائلتين إلى الأزرق، يصنع على ذات الآلات الألمانية المنشأ، منذ 56 عامًا، طاولات البلياردو.
يتنقّل صانع البلياردو أو كما يُلقّبهُ زبائنه "بروفيسور البلياردو" بين آلاته الخفيفة والثقيلة، ويشرح بحماسٍ أقوى من خطواته المتعبة على الأرض، كلما سألناه أو تذكر، مرفقًا بعض إجاباته بضحكات تُحيله إلى طفلٍ فجأة مع بريق الخجل في عينيه.
وفي تعريفه بنفسه، من لحظة اللجوء عام 1948 إلى لحظة وُلوجه عالم النِجارة، يقول فوزي ذياب معلا (77 عامًا)، إنه وعائلته هُجّروا من بلدة لفتا قضاء القدس، عام 1948 بعد ارتكاب العصابات الصهيونية مجزرة "دير ياسين"، إلى مدينة اللد، لكن مع تصاعد الأحداث في اللد والرملة، هُجّروا مجددًا، فلجأوا إلى قضاء رام الله.
وعن رحلة التهجير القسري يقول "أبو عصام" بلهجته العامية "ذُقنا الأمرّين في الطريق (...) بتذكر أبوي كان يروح ع البير ويشلح قميصه ويبلّه ويجي يعصره في حلقنا عشان ما نموت من العطش"، وبعد وفاة والده عام 1952، دعاه جارهم منير الصّلح، إلى تعلّم مهنة النِجارة، وهو كما يقول "علّم كل نجّارين البلَد"، ومنذ ذلك الوقت، أصبح "أبو عصام" نجّارًا، لكنّه منذ عام 1960 اختصّ بصناعة طاولات البلياردو من خشب "الزّان".
تزوّج "أبو عصام" صغيرًا (19 عامًا)، لإقناعه في البقاء داخل البلاد، وعدم الهجرة إلى الكويت، كحال الكثيرين آنذاك، وله من البنين 7، فقد منهم اثنين، وتبقى له خمسة بين الولايات المتحدة الأميركية ورام الله، لم يتعلّم المهنة منه سوى ابنه حسام، الذي يُدير معرض بيع طاولات البلياردو ومعدّاتها، إلى جانبه.
لكن "أبا عصام" هو الوحيد صانعًا لطاولات البلياردو، ولا يُجيدها سواه على الآلات التي يملكها، وفق ما يقول لـ"الحياة الجديدة"، حيث ذهب العُمّال الذين تعلّموا على يده خلال السنوات الفائتة، واختاروا إكمال مشوارهم في مهنة النجارة بعيدًا عن تخصصّ البلياردو.
وكحال أيّ صاحب مهنة عتيقة وذي خبرة مديدة، يسخرُ "أبو عصام" من الصناعات الجديدة في النِجارة بقوله "شغل الفورمايكا احنا بنسمّيه (بزّق ولزّق).. كنّا لما نشتغل غرفة النوم نقعد شهرين كاملين بإيدينا نصنعها، بس اليوم الخشب بيجي جاهز وفي ماكنات، ما عليك إلا تقص وتجمع"، مشيرًا إلى أن غرف نوم لا تزال إلى اليوم صامدة وجميلة في بيوت زبائنه، منذ صناعتها قبل 50 عامًا.
ويختصر "أبو عصام" سبب شغفه بصناعة طاولات البلياردو واختياره لهذا المجال منذ عشرات الأعوام، بكلمتين "فن ودقّة".
وفي لقاء "الحياة الجديدة" مع "أبي عصام" داخل منجرته العتيقة، التي تتوزع في أرجائها أدوات بمسيّات غير مألوفة لأذن البعيد عن هذه المهنة، يقول "البروفيسور": "الفارة والرابوخ والمنشار ما ببدلهم بماكنات اليوم (...) ونجّارين اليوم بعرفوش ايش هو الشنكور، هذا لفتح العيار، كمان المقشطة ما حدا بعرفها منهم أو بعرف يسِنها، ولا بعرفوا لإيش بنستخدمها".
ويبدو فخورًا حين يشير إلى المعدّات الثقيلة التي يمتلكها، وتصنع ضجيجًا يستحيل إلى جانبه الكلام، كلما جرّبها أمامنا، وأرشدنا لدواعي استخدامها.
لماذا ما زالت تعمل إلى الآن؟ يقول "أبو عصام": "بتسلّى، وغير هيك بكسَل وبهبط، أنا بشتغل ساعة في المنجرة كل يوم وساعة في المعرض، وما بشتغل طول النهار متل زمان، لإني ما بَقدَر".
وعن سوق البلياردو بين الماضي والحاضر، يقول "أبو عصام" إنه كان يصدّر الطاولات إلى دول عربية كمصر ولبنان والأردن، ثم صارت "إسرائيل" سوقًا قويًا له، مشيرًا إلى أن التُجّار الإسرائيليين كانوا يدمغون الطاولات بعلامات تجارية أجنبية كبلجيكا وإيطاليا، ويبيعونها على أنها مستوردة، وليست محليّة الصّنع.
كما أن هذه المهنة كغيرها، تأثرت بالمنتوجات الصينية، التي تأتي أرخص ثمنًا وجاهزة، لكن عيبها كما يقول "أبو عصام" أنها إذا تلفت تنتهي ولا يمكن تجديدها، فيما يستطيع صانع البلياردو تجديد طاولات عمرها 30 عامًا من الصنع المحلي، وهذا ما يقوم به صنّاع بلياردو سواه حاليًا، ممن ذكرهم لنا، أي التجديد وليس صنع الجديد.
مواضيع ذات صلة