الانتخابات التركية.. الصراع حول هوية الدولة
كثير من الأسئلة حول الصراع السياسي الذي يدور داخل تركيا يجيب عليها موقع هذا البلد الجيوسياسي، وهو موقع محير من حيث الانتماء. فمن جهة يمكن للأتراك أن يعتبروا أنفسهم جزءا من أوروبا والحداثة الأوروبية، ومن جهة أخرى يمكن أن يعتبروا أنفسهم دولة شرق أوسطية مسلمة، لها تركيبة سكانية شبيهة بتلك الموجودة في دول الشرق الأوسط. وبالإضافة إلى موقعها، فإن تاريخها يحمل نفس التناقضات، فهي على امتداد ألف سنة كانت مركز الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية (إسطنبول اليوم) ومن ثم على امتداد أكثر من أربعة قرون كانت مركز السلطنة العثمانية (الخلافة الإسلامية). حتى الدولة البيزنطية وهي انشقاق عن الإمبراطورية الرومانية اللاتينية، والتي كان مركزها روما، فقد تكيف البيزنطيون مع موقع تركيا وأسسوا الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية الشرقية.
في عام 1923 قاد الجنرال مصطفى كمال أتاتورك قائد الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، ما أطلق عليه "حرب الاستقلال" وسيطر على الحكم، وقلب أتاتورك، أي "أبو الأتراك" هوية البلاد رأسا على عقب وحسم موضوعها لمصلحة القومية العلمانية على النمط الأوروبي، واختار أن تكون تركيا جزءا من الحداثة الأوروبية، وقام بعملية تحديث شاملة للدولة، حتى أنه فرض أنماط اللباس الأوروبية، وقام بإلغاء الطربوش وكل رمزيات السلطنة العثمانية. استمر ما أطلق عليه الكمالية في السيطرة على تركيا بلا منازع حتى تسعينيات القرن العشرين، عندما ظهرت الأحزاب الإسلامية من تحت عباءة نجم الدين أربكان وحزبه حزب الرفاه، والذي يعتبر حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي الحالي أردوغان امتدادا له.
القوانين العلمانية لم تكن تسمح للأحزاب الدينية بالعمل السياسي، كما كان التعليم في المدارس والجامعات علمانيا لا تدرس فيها الأديان، وإن أي عائلة تريد لأبنائها دراسة الدين الإسلامي ما عليها سوى إرسالهم إلى مدارس خاصة لتعليم القرآن. نتيجة لذلك كان على أربكان أن يغير اسم حزبه مرات عديدة كي يتحايل على هذه القوانين، إلى أن أصبح رئيسا للوزراء للمرة الأولى عام 1996. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الصراع مجددا حول هوية الدولة هل تستمر كونها قومية علمانية تميل نحو أوروبا، أم هوية قومية إسلامية، أو إسلامية.
المشكلة الأخرى هي تركيبة تركيا السكانية، فهناك الأكراد ويمثلون 20 % من السكان، وهم بالطبع قومية مختلفة، بالإضافة أنه داخل الأتراك أنفسهم هناك ما يعادل 20 % أيضا هم مسلمون علويون، وهم بالمناسبة ليسوا كعلويي سوريا، وهناك أقليات أخرى صغيرة كالعرب، والأذريين والسريان وغيرهم. هذه التعقيدات في التركيبة السكانية تنعكس على الصراع على الهوية، فالأكراد، على سبيل المثال، لا يمكن أن يكونوا جزءا من الأحزاب القومية التركية، لذلك هم تحالفوا مع حزب أردوغان حتى السنوات الأخيرة عندما نحا هذا الأخير منحى قوميا بما يتعلق بالمسألة الكردية.
الانتخابات التركية التي جرت الأحد الماضي 14 أيار/ مايو الجاري، أظهرت انقساما حادا حول هوية تركيا، فالشعب تقريبا منقسم عاموديا حول هذه المسألة. وفي هذه الانتخابات، استغلت أحزاب المعارضة الأزمة الاقتصادية، وارتفاع الأسعار الناجمة عن التضخم وتراجع قيمة الليرة، فوحدت صفوفها بهدف إسقاط أردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية.
انتهت الانتخابات، ولم تفض عن فائز للرئاسة، وبالتالي ستشهد تركيا جولة ثانية في 28 أيار/ مايو الجاري يتنافس فيها الرئيس الحالي أردوغان، الذي حصل في الجولة الأولى على 49 ونصف بالمئة، وزعيم المعارضة زعيم حزب الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو، الذي حصل على،44.88 % أما عن نتائج الانتخابات البرلمانية، فقد حافظ حزب العدالة والتنمية على الأغلبية بحصوله على ما يقارب الـ 50 % من المقاعد.
وما يمكن التذكير به هو أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، كما أنها عضو في مجلس أوروبا، لكنها فشلت، ورغم كل المحاولات، أن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي، وهي عضو في الدول العشرين الأكثر غنى في العالم، فشل أنقرة في الدخول الى الاتحاد الأوروبي جعلها تتجه نحو الشرق الأوسط خصوصا في العقدين الأخيرين.
من دون شك إن تركيا تحتل موقعا إستراتيجيا مهما ونادرا فهي تتحكم بعقدة التقاء ثلاثة بحار، البحر الأبيض والأسود وبحر مرمرة، وهي بوابة أوروبا نحو آسيا والشرق، وبوابة روسيا نحو الجنوب. هذا الموقع منح أنقرة أوراق قوة كثيرة لتلعبها، ومن دون شك إن إردوغان يقوم باستخدام هذه الأوراق بشكل استفز به الغرب أحيانا ويستخدمها بشكل إيجابي في الأزمة الأوكرانية على سبيل المثال في حل أزمة الحبوب العالمية.
وبالرغم من أن فرص الرئيس التركي الحالي تبدو أكبر من زعيم المعارضة في جولة الانتخابات الثانية، إلا أنه من السابق لأوانه الجزم بمن سيفوز من الآن، فقد تحول سنان أوغان، وهو قومي متطرف، إلى بيضة القبان بعد أن حصل على 5.25 % من أصوات الناخبين في الجولة الأولى.
وبما يتعلق بالعلاقات التركية العربية، فهي علاقات تاريخية وجيو سياسية قديمة فقد لاحظنا في السنتين الأخيرتين أن أردوغان قد بدأ بسياسة تصفير مشاكله مع الدول العربية، وخاصة مصر والسعودية والإمارات، وحتى مع نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، ولكن تبقى علاقات تركيا مع قطر بمثابة حجر الزاوية في علاقات تركيا مع الدول العربية. فهناك تحالف متين بين البلدين. بالإضافة إلى العلاقات مع طرابلس الغرب في ليبيا، ومع جماعة الإخوان المسلمين في الدول العربية والإسلامية، والذي يعتبر حزب العدالة والتنمية جزءا منها. أما عن العلاقات الاقتصادية فهي علاقات قوية تزيد عن الـ 50 مليار دولار سنويا. لذلك لم يكن غريبا المتابعة العربية الحثيثة للانتخابات التركية، فلنتائج هذه الانتخابات تأثير كبير على موازين القوى في المنطقة.