في موازاة البعد الأيديولوجي في سرديات غسان كنفاني، ينبغي أن نتحدث عن القصدية في اختيار أبطال هذه السرديات.
لم يذهب غسان كنفاني لاختيار أبطال مكللين بالغار ولا زعماء ممرغين بالهزيمة ولا استلهم شخصياته من الماضي التليد، بل استنبتهم من رحم القضية الفلسطينية وصوّرهم في بيئتهم وضمن طبقاتهم الاجتماعية، و(خيمة عن خيمة تفرق)، كما يقول.
وقد قدّمهم للقارئ معتمدًا على تداعيات تيار الوعي والمونولوج الداخلي والوصف الخارجي مستفيدًا من تقنيات السينما، بعيدًا عن بلاغة المحسنات البديعية والجمل الانشائية، ومعتمدًا بلاغة الصورة الفنية وتنامي الأحداث وتطور الشخصيات. صنع كنفاني أبطالًا عاديين بإطار واقعي مقنع دون استعراض ثقافي، وبلا تعال بلاغي أو معرفي على القارئ، واستطاع التأثير بقرائه، وإغاظة أعدائه، وبناء موثق تقدمي إنساني راسخ ما زلنا نهتدي به إلى يومنا هذا.
يجد القارئ لكتابات غسان كنفاني سردًا ديناميكيًا متحركًا يعطي الزمان والمكان الذي تتحرك فيه شخصيات سردياته منحى خاصًا بين البعد الموضوعي المرتبط بالأحداث العامة، والبعد الذاتي الذي تنجلي من خلاله ملامح الشخصية وخصوصيتها.
وقد أجاد غسان عبر تنوع الشخصيات بتصوير عذابات الفلسطيني وآلامه وتغلغل في الطبقات المسحوقة فينهضها لتقاوم، وينحاز غسان للثوار المهمشين أمثال شخصية حامد في رواية "ما تبقى لكم"، التي تنتهي بانتصار حامد وشقيقته مريم، ومثل شخصية العاشق في رواية "العاشق" الذي يتحول من صعلوك ذي شخصية فوضوية إلى مناضل في صفوف الطبقة العاملة، حيث يصفه رئيس العمال (رأيت في عيني العاشق وميضًا خفيًا... إنه نوع من الرجال ينبت فجأة أمامك، فإذا بك غير قادر على نسيانه)...
غسان بطلنا
جدّد كنفاني في تقنيات السرد العربي من خلال الاعتماد بشكل كبير على المونولوج الداخلي لأبطال قصصه ورواياته، وتوظيف تقنيات السينما في رسم المشهد القصصي وصور بطلات وأبطال قصصه في بيئتهم الواقعية. فكنفاني مثقف ثوري صاحب أيديولوجيا قوامها الحرية والتحرير والانحياز للمضطهدين، وهو ابن حركة القوميين العرب، ثم صار لسان حال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من خلال عمله الصحافي المؤسس في صحيفتي "الحرية" ثم "الهدف". وكان فنانًا تشكيليًا بارعًا، وقد استطاع ببراعة نادرة أن يقدّم فكره وأيديولوجية منظمته وآراءه السياسية من خلال الصحافة والرسم والسرد القصصي معطيًا لكل فن حقه، وبقدرة عالية على التواصل.
ولقد بث روحه، روح المثقف المناضل العاشق التقدمي الشهيد، في أبطال أعماله الإبداعية، وهو الراوي العليم الذي يبني شخصيات أبطاله ويوجههم في دروب الحياة في كل قصصه ورواياته، وقد مزج بمهارة ودقة بين الدراما الشخصية لأبطال حكاياته وبين تراجيديا القضية الفلسطينية في إطار الصراع العربي الفلسطيني مع الصهاينة المحتلين، وبثّ في كتاباته بعدًا عربيًا وإنسانيًا لعذابات أبطاله.
لا تذهب هذه الورقة لتقسيم الشخصيات حسب النوع (امرأة، رجل، طفل...) فأم سعد ذات ملامح جماعية ثورية مثّلت الجماهيري المتحرك الذي أصبح عليه الشعب الفلسطيني بعد النكبة. وكان يمكن أن تكون "أبو سعد" الذي يشعر بمرارة الهزيمة ويرفض ذل اللجوء والمخيمات.
وتظل شخصية أم سعد (في الرواية التي تحمل الاسم نفسه) من الشخصيات الفاعلة، فهي تتبنى توجهاتها في الحياة نظرًا لتعمقها في تجارب الطبقة المُعْدَمة الضعيفة، فينضج ويتطور وعيها وقناعتها من خلال تجاربها الذاتية، فمعايشتها لتلك الجزئيات البسيطة الملازمة لشخصية المرأة الفلسطينية جعلت منها شخصية فنية على الرغم من بساطتها، وكما ترى د. رضوى عاشور فإنّ تلك الجزئيات البسيطة الملازمة لشخصية أم سعد التي تمر بها في حياتها اليومية وكذلك مواكبة كنفاني للواقع المرير وابتعاده عن المبالغة في رسم شخصياته، جعلتها تتميز بوصفها شخصيات فنية مأخوذة من الواقع.
الإنسان قضية
في بواكير قصصه نقرأ قصة "إلى أن نعود" التي كتبها عام 1957 وبطل هذه القصة شخصية بلا اسم تروم الانتقام من العدو الذي عذّبه وقتل زوجته. فهذه الشخصية تمثل ضحية من ضحايا العصابات الصهيونية وكنفاني لم يضع اسمًا لبطل قصته فعبّر عنها باستعمال الضمير الغائب بوصف الإنسان رقمًا مبهمًا بين أرقام مبهمة، واستخدم أسلوب الوصف لعرض شخصيته وتقديمها للقارئ فــ (كان قصيرًا أسمر البشرة، محروقًا، لم يكن في وجهه أي شيء يستلفت النظر لأول وهلة، كل ما هنالك أن لفمه شفتين رقيقتين تنطبقان في تصميم....).
لاحقًا ستأخذ الشخصيات أسماء ذات دلالات، وسيرافق الوصف تعمق في البعد النفسي والاجتماعي لأبطاله.
ففي رواية "عائد إلى حيفا" شخصية من الطبقة المتوسطة، فالأب سعيد مُدان بسبب موقفه السلبي من القضية الفلسطينية كونه لم يحسم موقفه منذ بدء الاحتلال فيلجأ إلى خيار اللامواجهة على الرغم من ترحيلهم من حيفا بالقوة والعنف وتركهم لطفلهم الرضيع (خلدون) في منزلهم بحيفا، واستيلاء الأسرة الصهيونية على منزلهم وولدهم خلدون، وتصير الذكرى الذاتية رمزًا موضوعيًا لفقدان فلسطين، فجلّ اهتمام غسان كنفاني دفع الكتابة لاعتناق دورها في استثارة الذات الفلسطينية لتحقيق دورها التاريخي.
وضع كنفاني شخصية سعيد في دائرة الصراع والاضطراب بعد فراقه الأرض وولده خلدون، إذ يتخذ الكاتب من شخصية سعيد دلالة على مواقف ورؤى الجانب العربي للقضية، ثم يحتدم الموقف بين الطرفين وينكشف ذلك جليًا في الحوار بين (دوف) الإسرائيلي وهو خلدون ووالده سعيد، واتخذ كنفاني من شخصية (دوف) رمزًا لفلسطين فهي بؤرة مركزية تستقطب قطبي الصراع بين العرب والصهاينة. وفي مقاربة مع قصة سيدنا سليمان، هل الطفل لمن ولدته أم لمن ارضعته واعتنت به، نجد سعيد الأب البيولوجي في موقف المواجهة مع الابن (دوف)، ويجد الحل في ابنه الثاني (خالد) الذي يجسد بزوغ حركة المقاومة بعد هزيمة حزيران/يونيو فضلًا عن تجسيدها للتغير الأيديولوجي عند غسان كنفاني.
وفي رواية "ما تبقى لكم" التي تقوم على تيار الوعي، لم يسند كنفاني صوتًا خاصًا إلى شخصية زكريا في الرواية، كونه خائنًا قام بالوشاية عن سالم قائد المقاومة، وخان مريم ودنس شرفها وحاول إجهاض وليدها الذي تنتظره، وقد كانت نهاية هذا الخائن هي الموت كما أراد لها كنفاني. أما شخصية أبو سمير في قصة "القميص المسروق" فهو خائن أيضًا يتعامل مع الموظف الأميركي في وكالة الإغاثة الدولية.
وقد وفِّق كنفاني في تصوير الشعور الداخلي لشخصيته وإصرارها ومقاومتها وكذلك معاناتها وحزنها العميق، وتعزز القصة موقفين من التناقض: الأول، موقف الفدائية (ليلى) والثاني، موقف (خيري) المتخاذل الذي جسّد وعي الشعب الفلسطيني في مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين. وحين يقرأ (خيري) ديوان عمر الخيام الذي أهدته إياه (ليلى) تستثار ذاكرته عبر رحلة الذاكرة التي اخترقت الأزمنة والأمكنة. فهذه الفتاة المثقفة الواعية تأخذ دور المناضلة لتغيير الواقع وقد كانت شخصيتها غامضة لا توحي للمقابل بالشجاعة الكامنة وراء أنوثتها، ويتضح ذلك في هذا المقطع من القصة: (لم أكن أعلم أن تلك الفتاة الناعمة... كانت تقوم بعمليات نسف يعجز عن تصورها رجل متوسط الشجاعة).
الطفل الذي بدا لنا راويًا في قصة "أرض البرتقال الحزين" كصوت معبّر عن الطبقة المغمورة والمُعْدَمة في الشعب الفلسطيني، والذي يطغى صوته المعبر عن ذكريات الطفولة المشردة، ومشاعر تلك العائلة إثر نزوحها من يافا إلى عكا، هذا الطفل يصير شاهدًا ومقاومًا في قصة "كان يومذاك طفلًا"، فالطفل في هذه القصة أرسلته والدته ليتأكد من بقاء والده على قيد الحياة، وفي أثناء رحلته تعترض طريقهم دورية للجيش الإسرائيلي فتقتل ركاب السيارة جميعهم، وتترك الطفل ليروع أهله بمشاهد القتل التي تكررت أمام ناظريه.
تلك الخطوات الثابتة، وذلك الهدوء في سير الطفل والتوقف عن العدّ يعني اختيار المقاومة وكذلك إعلان رفض وجودي صارخ لوضعية الراوي من أساسها مماثلًا كان أم مغايرًا وتفضيل اختيار وضعية المقاوم الفاعل عليها، فإذا كان الصهيوني حتى حينه يفعل (إرهابًا) والفلسطيني يروي (خارجًا وداخلًا) فإن الطفل يمضي في موقفه إلى الفعل المقابل (الفدائي والمقاوم) ويترك لسواه أن يروي.
عن شخصية اليهودي
شخصية اليهودي في قصص كنفاني ورواياته انزاحت عن المفهوم المتداول عن الشخصية اليهودية، فقد تعامل مع الطرف الآخر اليهودي بموضوعية وإنسانية من جهة أخرى، ففي رواية "عائد إلى حيفا" قدّم كنفاني شخصية (ميريام اليهودية) القادمة من إيطاليا والتي اكتشفت زيف الادعاء الصهيوني حين رأت شابين من عصابات الهاغاناه الصهيونية يحملان طفلًا عربيًا ميتًا ملطخًا بالدماء وقاما برميه في شاحنة، فقالت لزوجها إن ذلك طفل عربي ميت، وقد رأيته مكسوًا بالدم. وعند سؤال زوجها (ايفرت كوشن) عن كيفية معرفتها بذلك أجابته قائلة: (ألم تر كيف ألقوه في الشاحنة وكأنه حطبة؟ لو كان يهوديًا لما فعلوا ذلك!). وكذا الأمر بالنسبة إلى شخصية قائد الدورية الصهيونية المتعجرف في قصة "كان يومذاك طفلًا"، وشخصية الجندي الصهيوني التائه في الصحراء في رواية "ما تبقى لكم".
وتبدو لنا الشخصية الصهيونية أيضًا ذات صورة عنصرية تُبغِض الآخرين، وهي ميّالة للسطوة والتجبّر، وتتعامل مع الآخرين على أساس الدين والعِرق. وتميز ذلك التقديم للشخصية الصهيونية بالاقتصار على وصف الملامح الجسمانية للشخصيات مع تتبع أفعالها الوحشية دون الغوص في دواخلها.
كذلك قدم شخصية الخائن أيضًا، فلا نجد ملامح نفسية واضحة لشخصية زكريا الذي وشى بسالم قائد المقاومة، وكذلك شخصية أبو سمير العامل في وكالة الغوث الدولية الذي يسرق قوت اللاجئين.
عاينت شخوص هذه الرواية بمخيلة روائي: ثلاثة رجال من أجيال مختلفة اختارهم غسان بعناية رمزية هامة قضوا داخل خزان السيارة. هل يعقل أنهم ماتوا في لحظة واحدة؟ بماذا كان يفكر كل واحد منهم وهو يرى زميله يقضي نحبه؟ ألم يرفس أحدهم الخزان وهو يلفظ أنفاسه؟
هل دقوا جدران الخزان ولم يسمعهم أحد؟
سؤال أبو الخيزران الانتهازي اللامبالي كان لموتى رماهم في مكب النفايات. فهل نصدقه؟
***
لقد قدّم كنفاني سلوك شخصياته بشكل طبيعي لا افتعال فيه، فصوّر الكاتب لحظات الضعف والقوة الكامنة في النفس البشرية، ومزج بمهارة الذاتي بالموضوعي، وزاوج بين العالم الخارجي الذي تتحرك فيه الشخصية وبين وجودها النفسي الباطني ببراعة، وقدّم لنا أدبًا مقاومًا وإنسانيًا ما زال يحفز الأجيال للثورة على الواقع المرّ ورفض الاحتلال والاستغلال، والانتصار لقيم الحق والخير والجمال.
(*) نصّ ورقة قدّمت ضمن مؤتمر "غسان كنفاني للرواية العربية" الذي عقد مؤخرًا في العاصمة الأردنية عمّان.
روائي وقاص أردني*